
الزاوية الخامسة
دور كينيا في حرب السودان بالوكالة (١)
بقلم صباح المكّي
الجزء الأول: الوجه المزدوج — الوساطة أم المؤامرة؟
*مقدمة*
تحت قناع الوساطة الذي تروّج له كينيا في الملف السوداني، تتخفّى بنية عميقة من التورّط — بنية تربط بين دبلوماسية السرد، ولوجستيات الخفاء، وآليات الحرب بالوكالة.
هذا التحقيق متعدد الأجزاء يتتبع كيف انزلقت الحيادية إلى التواطؤ، وكيف غطّت الوساطة على التسلّح، وكيف تحوّل فاعل إقليمي كان يؤتمن على الحوار، إلى متهمٍ بتغذية الفوضى.
الوجه المزدوج — الوساطة أم المؤامرة؟
في الوقت الذي روّجت فيه كينيا لنفسها كوسيط محايد في الحرب السودانية، تكشف الأدلة الموثقة عن اصطفاف خطير يُدار من خلف الكواليس. ما بدا دبلوماسية، يتجلّى اليوم كمسار تواطؤ منهجي: تأييد سياسي، ودعم مادي لكيان مسلّح خارج عن القانون، يختبئ تحت شعارات السلام.
هذا الفصل التمهيدي يتتبّع انهيار الحياد الكيني، ويكشف المؤشرات البنيوية لدولة تورّطت — سياسيًا ولوجستيًا وعسكريًا — في حرب إقليمية بالوكالة.
فعقب تصريحات الدكتور إسحاق مورا، المتحدث باسم الحكومة الكينية في ١٦ يونيو ٢٠٢٥، والتي أقرّ فيها علنًا بدعم الإمارات المادي لمليشيا الدعم السريع، سارعت وزارة الخارجية السودانية إلى إصدار مذكرة احتجاج رسمية بتاريخ ٢٢ يونيو. اعتبرت فيها الخرطوم موقف كينيا شرعنة صريحة للتدخل الأجنبي في الشأن السوداني، وانتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي، وخرقًا لمواثيق الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.

كما أدانت استضافة كينيا لتوقيع اتفاق سياسي مزعوم من قِبل الدعم السريع في نيروبي، واعتبرته محاولة غير قانونية لترسيخ سلطة موازية على أرض دولة ذات سيادة. خطوة، بحسب البيان، تُمهّد لتفكيك الدول الإفريقية، وتنتهك مبدأ عدم التدخل، وتزعزع استقرار الإقليم.
واستنادًا إلى الجرائم الجسيمة التي ترتكبها مليشيا الدعم السريع — من إبادة جماعية وجرائم قتل على أساس عرقي، وعنف جنسي، وهجمات على النازحين — اتهم السودان كينيا بتوفير غطاء سياسي ودعائي لكيان إرهابي. واعتبر أن هذا السلوك يرقى إلى التواطؤ في الجرائم الفظيعة، بل يشكّل عدوانًا مباشرًا على الدولة السودانية وشعبها.
وذكّرت الوزارة بتعهدات كينيا السابقة بعدم السماح باستخدام أراضيها لأي نشاط عدائي ضد السودان، وهي تعهدات انتهكتها نيروبي بوضوح. ودعت المجتمع الدولي إلى إدانة هذا التدخل السافر، مؤكدة حق السودان الكامل في
اتخاذ ما يلزم من إجراءات لحماية سيادته ووحدة أراضيه.
*١. تحت راية السلام — حين تآكل الحياد وانهار*
لعامين متتاليين، رسمت كينيا لنفسها صورة الوسيط النزيه في الحرب السودانية، متسلّحة بخطاب دبلوماسي أنيق، وتماهي محسوب مع أطر الإيغاد والاتحاد الإفريقي. قدّمت نيروبي نفسها كراعٍ للحوار، وساعٍ للاستقرار، ومناصرٍ للجهد الإنساني. غير أن ما كان يلمع على السطح، يخفي واقعًا أشدّ قتامة: تشابك مؤسسي بين الدولة الكينية وميليشيا الدعم السريع — تشابك سياسي ولوجستي ومالي، يضع نيروبي في قلب معادلة الحرب، لا على هامشها. لم تعد هذه العلاقة المريبة محض تكهّنات. بل أصبحت اليوم موثقة عبر تقارير ميدانية وسجلات رحلات جوية رسمية( راجع تقرير لجنة الخبراء الأممية S/2024/65، فقرة ٤١)، وحركة دبلوماسية مشبوهة، ومراسلات صريحة من الخرطوم. لم يتآكل حياد كينيا فحسب — بل انهار تحت وطأة الوقائع. لم نعد أمام رواية قابلة للتأويل، بل أمام حقيقة موثّقة تستدعي المساءلة الدولية والمحاسبة الإقليمية.
فما يُقدَّم على أنه “وساطة”، يتضح أنه اصطفاف متعمَّد.
والسؤال لم يعد: هل تجاوزت كينيا حدود الحياد؟
بل: إلى أي مدى تورّطت في تأجيج تمرد ضد دولة عضو ذات سيادة؟
*٢. خرافة التماثل — وهم الحياد الكيني*
في تصريحات علنية، زعم الدكتور إسحاق مورا أن نيروبي استضافت الفريق أول البرهان وقائد الدعم السريع في إطار جهود السلام. لكن لا وجود لأي دليل دبلوماسي رسمي يؤكد مشاركة الفريق أول البرهان في حوار تحت الرعاية الكينية مع قائد المليشيا، حميدتي؟! ما هو موثّق بالفعل، قمة دعائية أحادية نظمتها مليشيا الدعم السريع في نيروبي، أعلنت فيها ما سمّته زورًا بـ”حكومة السلام والوحدة” — كيان ملفق، تم تصديره للرأي العام كسلطة موازية، في خرق سافر للقانون الدولي ومبادئ الاتحاد الإفريقي.
لم يكن ذلك “تيسيرًا للحوار”، بل تنصيبًا أحاديًا لميليشيا على أنها ندٌّ للدولة. استبدلت كينيا الشرعية بالبهرجة، والحياد بالتأييد الضمني. ثم جاءت تصريحات مورا عن دعم الإمارات لميليشيا للدعم السريع بدافع مصالحها في ذهب السودان وأراضيه وموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر، لتفضح المستور. فقد بات واضحًا أن هذه الميليشيا ليست تمردًا داخليًا، بل أداة أجنبية مدفوعة الأجر، تُدار عن بُعد.
والسؤال الجوهري هنا: كيف لكينيا أن تعترف بأن مليشيا الدعم السريع كيان ممول خارجيًا، ثم تمنحه منصة سياسية، وتتبنّى سرديته الإعلامية، وتُضفي على سلوكه شرعية مزيّفة؟ كيف يُسمى ذلك وساطة؟ الوساطة تتطلب حيادًا، لا تبنّيًا لسردية طرف على حساب الآخر.
موقف كينيا لا يُجسّد حيادًا، بل يعكس انحيازًا واضحًا. الخط الفاصل بين المضيف والمُمكِّن قد تلاشى، ومعه تلاشت مصداقية كينيا كوسيط في أزمة السودان.
*٣. الاصطفاف بالصمت — هندسة الخطاب وانتقائية اللوم الجيوسياسي*
في محاولةٍ لصرف الأنظار عن تورّط كينيا العميق مع ميليشيا الدعم السريع، لجأ الدكتور إسحاق مورا إلى خطابٍ مضاد، اتهم فيه مصر وإيران بدعم القوات المسلحة السودانية. غير أن هذا الطرح لا يجانب الحقيقة فحسب، بل يُشكّل تحريفًا متعمّدًا للوقائع ومحاولة مكشوفة لإعادة تعريف الشرعية.
فالجيش السوداني ليس فصيلًا مسلحًا، بل هو المؤسسة النظامية الوحيدة المخوّلة بحماية وحدة الدولة وسيادتها، والمعترف بها دوليًا كطرف شرعي في النزاع. وتعاونه الدفاعي مع دول كالسعودية وتركيا ومصر، ومع إيران مؤخرًا، يندرج ضمن ما يكفله القانون الدولي من حق سيادي في بناء شراكات أمنية تمليها مصالح الدولة لا وصايات الخارج — وهو حق تمارسه كينيا نفسها من خلال تحالفاتها العسكرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى.
المثير في خطاب مورا ليس الاتهام، بل اختيار الهدف: تجاهلٌ متعمّد للعلاقات العسكرية المعلنة مع السعودية وتركيا، وتركيز حصري على إيران، كأنها هي وحدها من تستوجب الإدانة.
هذا الانتقاء لا يعكس موقفًا دبلوماسيًا متّزنًا، بل يكشف عن هندسة خطاب موجّه، متماهٍ مع سرديات ممولة من أبوظبي، حاولت سابقًا — عبر صحف مثل جيروزاليم بوست الإسرائيلية. — ربط الجيش السوداني زورًا بالحرس الثوري الإيراني، لتشويهه دوليًا، وتهيئة الأرضية لعقوبات مستقبلية.
والتناقض الفجّ يتجلّى حين ننظر إلى المعطيات الاقتصادية:
الإمارات، التي تُعتبر الحليف الاقتصادي الأول لكينيا، والراعي الأبرز ماليًا وعسكريًا لميليشيا الدعم السريع، سجّلت مع إيران تبادلًا تجاريًا تجاوز ١٩ مليار دولار خلال الفترة من ٢٠ مارس ٢٠٢٤ إلى ١٩ فبراير ٢٠٢٥، دون أن يثير ذلك أي اعتراض دبلوماسي أو إعلامي.
فأين كانت تلك “الحساسية السيادية” حينها؟ وأين اختفت فزاعة “الاختراق الإيراني”؟
الرسالة التي يوجّهها هذا الخطاب الانتقائي لا تخطئها العين:
الدبلوماسية تُكافَأ إن جاءت امتدادًا لنفوذ القوى المُهيمنة، وتُجرَّم حين تعبّر عن قرار وطني مستقل — خصوصًا إن صدر عن دولٍ كالسودان، التي تُعلن استقلالها من موقع مبدئي يرفض الخضوع لهيمنة المحاور المتنفذة.
الحقيقة الجلية أن ما تقدّمه نيروبي ليس وساطة، بل خطابًا مفخخًا، صُمّم لتبييض صفحة ميليشيا ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وتشويه صورة جيش شرعي يقاتل من أجل بقاء الدولة.
إنها ليست دبلوماسية، بل مناورة مدروسة، مغلّفة بلغة الحياد، وتخدم — عن وعي — أجندات تتجاوز السودان.
*٤. خط السلاح — بصمات كينيا في مستودعات الدعم السريع*
في ١٦ يونيو ٢٠٢٥، كشفت تحقيقات موسعة أجرتها Nation Media Group وBellingcat عن أدلة مصوّرة وتحليلات جنائية تؤكد العثور على صناديق ذخيرة تحمل علامات وزارة الدفاع الكينية في مستودعات تتبع لميليشيا الدعم السريع بمنطقة الصالحة في أم درمان.
الذخائر كانت حيّة، وسليمة، وتحمل رموزًا تعاقدية واضحة (AMI/KEN/099/2023)، وتشمل ذخائر خارقة للدروع وقذائف هاون من منشأ صيني تم تصديرها بعقود كينية رسمية.
الذخائر التي تحمل توقيعًا رسميًا من دولة عضو في الإيغاد، وتُستخدم في حرب ضد شعب أعزل، لا يمكن تفسيرها بخطأ إداري.
هذه الأدلة ليست افتراضات. بل هي بيانات مادية دقيقة، قابلة للتحقق، ومدعومة بتحقيق استقصائي مستقل بثّته قناة NTV Kenya، ونشرته عبر منصتها على يوتيوب تحت عنوان:
“Exposed: The Kenya-Sudan Shadowy Arms Deal.”
تضمن التحقيق لقطات موثقة وتحاليل مخبرية تثبت بشكل قاطع وجود ذخائر تحمل علامات رسمية كينية داخل الموقع المذكور.
ويتماهى هذا النمط مع أنماط تهريب سلاح موثقة مسبقًا — خصوصًا شحنات الأسلحة البلغارية التي اشترتها الإمارات ثم هرّبتها للدعم السريع، كما كشف تحقيق “فرانس ٢٤”.
هذا ليس مجرد تسريب. إنه دليل مادي على تورّط مباشر. فالسلاح لا يُهرَّب عشوائيًا، بل يُنقَل بقرارات.
وقد ردّت وزارة الدفاع الكينية ببيان مختزل ينفي التصنيع المحلي أو الموافقة الرسمية على عمليات النقل.
لكن هذا الرد — المبهم والمرتكز على مبررات عامة — تجنّب السؤال الجوهري:

كيف وصلت ذخائر تحمل توقيعًا عسكريًا كينيًا إلى مستودعات ميليشيا خلال حرب عُرفت بعنف ممنهج قائم على الاستهداف العرقي والجنسي؟ إن فشل الوزارة في التعامل مع التفاصيل الجنائية — كأرقام الدفعات والعقود ومسارات إعادة التصدير أو التحويل لطرف ثالث — ليس مجرد تقصير. بل إدانة ضمنية. ففي نزاعات بهذه الجدية، لا تتحرك الأسلحة صدفة. بل تُدار وتُنقل وفق حسابات سياسية وتجارية واستراتيجية. ولا يمكن اعتبار وجود أسلحة موقعة بعقود كينية في يد ميليشيا مسألة عرضية.
بل هو خرق صارخ للحياد، وخيانة لثقة الشركاء الإقليميين، ونسف لأسس الأمن الجماعي الذي تزعم كينيا الدفاع عنه.
*خاتمة الجزء الأول: سقوط القناع وانهيار المصداقية*
لم يعد بإمكان كينيا أن تختبئ خلف عباءة الوساطة، ولا أن تُجمّل موقفها بادعاءات الحياد.
فمن الترويج السياسي العلني، إلى الانحياز الخطابي، إلى الأدلة الميدانية الموثقة، أصبحت صورة “الوسيط” كذبة لا تصمد أمام التمحيص.
ما نشهده ليس حيادًا، بل اصطفافًا صريحًا مع طرف يرتكب جرائم ضد الإنسانية.
وما تمارسه كينيا ليس وساطة، بل تمكينٌ ممنهج لميليشيا أجنبية على حساب سيادة دولة وشعبها.
لقد تجاوزت كينيا عتبة “الوسيط” وأصبحت “صاحب مصلحة” عبر انخراطها في دبلوماسية السرد، وتواطئها في التمكين العسكري.
وإذا كانت الحيادية هي عملة الوساطة، فإن المصداقية هي احتياطها.
وقد استنزفت كينيا كليهما.
*تمهيد للجزء الثاني: الحرب بوسائل أخرى
*
لا يقتصر هذا التورط على الرموز السياسية ومستودعات الذخيرة. فخلف واجهة الدبلوماسية، تتكشف طبقات أعمق من التحالف: ذهب، وشبكات مالية، وحرفية استخباراتية تُدار بصمت.
من زيارات سرّية إلى مدارج سودانية قام بها وليام روتو حين كان نائبًا للرئيس، إلى تبييض المعادن المنهوبة، وتفكيك مسارات العدالة، يظهر كيف يتحول التواطؤ السردي إلى تآمر اقتصادي مهيكل، وكيف تُترجم المصالح الأجنبية إلى أرباح مُدارة بمنطق الحرب.
في هذا السياق، يتتبع الجزء الثاني العلاقة المثلثة بين ميليشيا الدعم السريع، وكينيا، والإمارات — حيث يُباع السلاح بالذهب، وتُعقد الصفقات في الظل، ويُضمن الإفلات من العقاب عن سابق تصميم.
#القوات_المسلحة_السودانية_تمثلني