
من مطار عالمي إلى محطة منسية: تفكيك أسباب تراجع الخرطوم من خارطة الطيران الدولي
كتب:إبراهيم عدلان
في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كانت الخرطوم محطة أساسية على خرائط الطيران العالمي.
شركات كبرى مثل لوفتهانزا، كي إل إم، أليطاليا، سويس إير، بريتش إيرويز، وإيبيريا، انترفلوك و ايروفلوت السوفيتية إلى جانب السعودية، الكويتية، المصرية، التونسية، طيران الشرق الأوسط، والإثيوبية، كانت تسير رحلات منتظمة إلى مطار الخرطوم الدولي.
لكن كل هذا المجد الجوي أخذ في التراجع والانكماش، حتى غابت الخرطوم عن قوائم شركات الطيران الكبرى، وأصبحت وجهة منسية. فما الذي حدث؟
1. الانقلاب السياسي والعزلة الدولية
شكّل انقلاب 1989 بداية مرحلة من العزلة السياسية والدبلوماسية. حيث تبنّى النظام الجديد خطابًا أيديولوجيًا متطرفًا، واستضاف جماعاتٍ أُدرجت لاحقًا ضمن لوائح الإرهاب، ما أدى إلى:
• فرض عقوبات اقتصادية ومالية صارمة.
• إدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
• تراجع التمثيل الدبلوماسي والمشروعات الدولية.
كل ذلك قلّص الحاجة إلى السفر من وإلى الخرطوم، وأفقدها مكانتها كمركز سياسي ودبلوماسي متصل بالعالم.
2. تدهور البنية التحتية للمطار والخدمات الأرضية
رغم زيادة عدد الركاب في دول الجوار، لم يشهد مطار الخرطوم أي تحديث حقيقي منذ عقود:
• صالات متواضعة وغير مهيأة.
• نقص الخدمات الحديثة كجسور الركاب وخدمات الترانزيت.
• مشاكل متكررة في الإضاءة والملاحة.
• ضعف في كفاءة وإدارة المناولة الأرضية.
هذه الظروف جعلت الخرطوم وجهة غير جاذبة للشركات التي تلتزم بمعايير تشغيل عالية.
3. انهيار سودانير وغياب الناقل الوطني
في ذروة نشاطه، كان يُعوَّل على الناقل الوطني سودانير للربط بين الخرطوم والعواصم العالمية، لكن:
• ضعف التمويل.
• سوء الإدارة.
• الفساد.
• غياب الشراكات الدولية.
كل ذلك أدى إلى انهيار سودانير، وفقدان الخرطوم للركيزة التجارية التي كانت تضمن استمرار الحركة الجوية المنتظمة.
4. الحرب في جنوب السودان وضغوط المجموعات الغربية
مع اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب، لعبت مجموعات الضغط الدينية والحقوقية في الغرب دورًا في تشويه صورة السودان.
نتيجة لذلك، انسحبت شركات مثل شل وموبيل من السوق السوداني، ليس فقط في النفط، بل في سلاسل الإمداد وخدمات الطيران.
انسحاب شل وموبيل أثر سلبًا على توفر الوقود، وخفّض التنافسية، وزاد من عزلة المطار في الأسواق العالمية.
5. أزمة تحويلات شركات الطيران
إحدى الطعنات القاتلة التي عجلت بانسحاب الشركات الكبرى كانت عجز بنك السودان المركزي عن تحويل عائدات مبيعات التذاكر إلى الخارج بسبب نقص النقد الأجنبي، والانهيار المتواصل للجنيه السوداني.
هذا أجبر الشركات على تحمل خسائر ضخمة، دفعتها للانسحاب من السوق، باعتباره بيئة تجارية “غير موثوقة”.
6. غياب التنافسية في أسعار الوقود
في ظل غياب الشركات العالمية المزودة للوقود مثل شل وتوتال وموبيل، ووسط تذبذب سلاسل الإمداد:
• ارتفعت أسعار وقود الطائرات.
• تدنّت جودته.
• غابت الشفافية والضمانات.
وهو أمر بالغ الأثر على قرارات شركات الطيران التي تعتمد بشكل مباشر على استقرار وإتاحة الوقود في كل وجهة.
7. ضعف البيئة التنظيمية للطيران المدني
الطيران المدني السوداني لم يُدار كمؤسسة مستقلة ومحترفة، بل ظل:
• خاضعًا للسلطة السياسية والأمنية.
• محرومًا من الهيكلة الحديثة.
• عاجزًا عن مواكبة المعايير الدولية في السلامة، التنظيم، الشفافية، واستقلالية القرار.
كثير من الشركات واجهت عراقيل بيروقراطية، وعدم وضوح، بل وفسادًا خفيًا في بعض المعاملات.
8. تراجع البعثات التعليمية وانكماش الطلب
من المحركات التقليدية لرحلات أوروبا، كانت البعثات التعليمية والعلاقات الأكاديمية.
لكن مع توقفها وانكماش الطبقة الوسطى، تقلص عدد الطلاب السودانيين في أوروبا الشرقية والغربية، وبالتالي:
• انخفضت حركة السفر نحو هذه الوجهات.
• تراجع الطلب الدائم على الرحلات.
• فقدت شركات الطيران مبررًا تجاريًا للاستمرار.
9. تحوّل مراكز الربط الإقليمي (Hubs)
بينما كانت الخرطوم تراوح مكانها، ظهرت مراكز جديدة أكثر كفاءة مثل:
• أديس أبابا (الخطوط الإثيوبية).
• الدوحة (القطرية).
• دبي وأبوظبي (طيران الإمارات والاتحاد).
• نيروبي (كينيا إيرويز).
هذه المراكز استحوذت على حركة الربط من وإلى أفريقيا، ففقدت الخرطوم تدريجيًا وظيفتها كمركز لوجستي أو ترانزيت إقليمي.
خاتمة: هل من أمل في العودة؟
نعم، لكن ليس بشعارات. المطلوب:
• إصلاح جذري للبيئة السياسية وعودة السودان إلى المجتمع الدولي.
• إعادة هيكلة هيئة الطيران المدني كجسم مهني مستقل.
• بناء مطار جديد بمعايير دولية، أو تطوير المطار الحالي جذريًا.
• ضمان التحويلات المالية للشركات وإعادة الثقة البنكية.
• إصلاح منظومة الوقود والمناولة الأرضية بالتعاون مع مزودين عالميين.
• إحياء ناقل وطني حديث بشراكات استراتيجية دولية.
الخرطوم لن تعود وجهة جاذبة بمجرد الأمنيات، بل عبر قرارات جريئة تعيد ثقة العالمي الخرطوم كوجهة عالمية .