
تعرف على حقيقة الفوضى الأمنية في دنقلا
✍️ د. الباقر عبد القيوم علي
في اللحظة التي تتهاوى فيها الضوابط وتنعدم الرقابة، تصبح القوة الممنوحة للبعض أداة تهديد لا حماية، وتتحول المؤسسات العسكرية إلى عبء على المجتمع بدلاً من أن تكون صمام أمانه. ما يحدث في دنقلا وبعض المناطق الأخرى من تجاوزات يومية من قبل أفراد “القوات المشتركة” يكشف عن اختلال خطير في منظومة الضبط والربط، وعن غياب واضح للقيادة والمساءلة.
إن ما يثير القلق ليس فقط تصرفات فردية هنا وهناك، بل هو سلوك متكرر ومنهجي، يتجسد في إطلاق أعيرة نارية دون مبرر، وقيادة مركبات بلا لوحات أو بلوحات غير سودانية، وفرض واقع فوضوي على الأسواق والأحياء السكنية. كل هذا يحدث في ظل تجاهل تام لسلطة القانون، وغياب أي رادع حقيقي يحاسب من يرتكب هذه الأفعال باسم “الزي العسكري”.
القضية تتعدى مجرد تجاوزات سلوكية، بل تمتد إلى الخلل المؤسسي في تركيبة هذه القوات، خاصة حين نتحدث عن تشكيلات مسلحة لا تخضع فعليًا لأي قيادة واضحة، ولا ترتبط بمؤسسة نظامية ذات طابع انضباطي صارم. فحين يختفي النظام وتضعف المرجعيات، تتحول القوة إلى تهديد مباشر لأمن المواطن واستقرار المجتمع.
المؤسف أن أي محاولة لتسليط الضوء على هذه الظواهر يُقابل باتهامات جاهزة: “عنصرية”، أو “تحريض”، أو “تشكيك في النوايا”. لكن النقد الهادف لم يكن يومًا خيانة. بل هو التعبير الحقيقي عن الحرص على الوطن، وعن الرغبة في تصحيح المسار قبل أن تستفحل الأزمة.
واليوم، نحن أمام مفترق طرق حقيقي: إما الصمت على الفوضى المتفاقمة التي تمارسها بعض هذه القوات، أو الوقوف صفًا واحدًا، كمواطنين وقيادات، لمواجهة هذا الانفلات بما يليق بمسؤولية المرحلة وخطورة المآلات.
وليس من الحكمة الزج بالمؤسسة العسكرية في مواجهات مع هذه التشكيلات المنفلتة، ولكن من غير المقبول أيضًا القبول بواقع يهدد السلم الأهلي ويمس هيبة الدولة، تحت ذريعة “الحساسية السياسية” أو “خصوصية التكوينات”.
في المقابل، هناك نماذج إيجابية لا بد من ذكرها، مثل قوات العدل والمساواة، التي أثبتت في سلوكها انضباطًا واحترامًا للتوجيهات، مما يعكس إمكانية وجود قوات منضبطة ضمن هذه التكوينات، متى ما توفرت القيادة الرشيدة والإرادة الصارمة.
اليوم، تقع المسؤولية على عاتق القادة والمنسقين الذين يشرفون على هذه القوات. إما أن يتحملوا واجبهم الوطني في ضبط الفوضى، أو يتحملوا نتائج فقدان ثقة المواطن ومزيد من تدهور صورة الدولة.
المواطن السوداني ليس خصمًا للمؤسسة العسكرية، بل هو درعها وعمقها، لكن الاحترام المتبادل لا يبنى على الخوف، وإنما على العدالة والانضباط. ولن يقبل هذا الشعب، الذي صبر كثيرًا، أن يتحول الشارع إلى غابة يتحكم فيها من يحمل السلاح بلا رقيب.
فلنتدارك الوضع قبل أن ينفجر الغضب، ولنعمل جميعًا على إعادة الهيبة للقانون، وللزي العسكري، وللمؤسسات، قبل أن يفوت الأوان.
