منوعات

ضابط إنجليزي في الخرطوم

منوعات _ النورس نيوز

ضابط إنجليزي في الخرطوم

 

منوعات و روايات _ النورس نيوز _ في نهايات القرن التاسع عشر، وصل النقيب الإنجليزي “جوناثان هاريس” إلى السودان كجزء من الحملة البريطانية–المصرية لإخضاع البلاد التي اشتعلت فيها نار الثورة المهدية. لم يكن يعلم أن تلك الرحلة ستغير حياته، وأن الأرض الحارقة على ضفاف النيل ستسلب منه شيئًا لا يمكن استعادته.

 

 

كان جوناثان، ضابطًا ملتزمًا، يرى في مهمته نشر الحضارة والنظام. لكن ما إن وطئت قدماه الخرطوم، حتى بدأ يدرك أن السودان ليس أرضًا خالية تنتظر التنوير، بل وطن حيّ، تقاوم روحه كل من يحاول إخضاعها.

أقام في ثكنة تطل على النيل الأزرق، وهناك التقى بـ”حسن”، فتى سوداني ذكي اختير كمترجم بين الجنود الإنجليز والسكان المحليين. كان حسن حادّ الذكاء، يراقب كل شيء بصمت واحتراس. ومع مرور الأيام، نشأت علاقة احترام صامتة بين الضابط والمترجم.

في إحدى الليالي، سأل جوناثان حسن:
“لماذا تتبعون المهدي؟ رجلٌ يزعم أنه المهدي المنتظر؟”
فرد حسن:
“لأننا سُحقنا طويلًا. نحتاج من يقول لنا إننا نستحق الحياة، حتى لو كان ذلك بالصراخ لا بالمنطق.”

كلمات حسن هزّت شيئًا في أعماق جوناثان. بدأ يطرح أسئلة لم يعتد أن يطرحها ضابط بريطاني. من أين يأتي هذا الإيمان؟ كيف يواجه شعبٌ جائعٌ واحدٌ من أقوى جيوش العالم بلا خوف؟

كان جوناثان شاهدًا على مذبحة “بارا”، حين اجتاحت القوات البريطانية قرية اشتُبه بولائها للمهدي، وأُحرقت البيوت، وقُتل الرجال. كتب في دفتره حينها:
“هذه ليست حربًا، بل انتقام بحجة النظام.”

وبينما تزداد مقاومة المهدي، تزداد شراسة الاحتلال. وجّه المهدي ضربته الكبرى بإسقاط الخرطوم وقتل الجنرال غوردون باشا، الرجل الذي كانت الإمبراطورية تعوّل عليه كثيرًا. كان سقوط غوردون صدمة لبريطانيا، وهزّة في وجدان جوناثان.

عاد إلى لندن بجسدٍ منهك وروحٍ مشتعلة، لكنه لم يجد راحة. ظلّ طيف السودان يطارده، فقبل بعد سنوات العودة، لكن بصفة جديدة: مستشار سياسي في حملة “هوراتيو كيتشنر” لاسترداد السودان من المهدية.

لكنه لم يعد إلى نفس البلاد. كانت الخرطوم مدينة محطمة، والمهدي قد مات، وخلفه الخليفة عبد الله. انقسمت البلاد، والجوع تفشى، والشعب تعب من الثورة والحرب.

التقى مجددًا بحسن، الذي أصبح مترجمًا رسميًا. لم يكن اللقاء وديًا، فقد تغير كلاهما. قال له حسن ذات مساء:

“حين رحلتم أول مرة، ظننا أننا انتصرنا. وحين عدتم، عرفنا أنكم لا تأتون مرتين إلا لتحكموا إلى الأبد.”

في معركة “أم درمان”، وقف جوناثان خلف المدافع الرشاشة، يشاهد آلاف الجنود السودانيين يركضون بشجاعة نحو الموت. كانت المعركة محسومة، والأسلحة الحديثة فعلت فعلها. كتب لاحقًا:
“لم يكن نصرًا، كان ذبحًا. رأيت أناسًا يموتون بإيمان، لا بأوامر.”

وبعد الانتصار، شارك في تأسيس “الحكم الثنائي”، لكنه سرعان ما أدرك أنه لا حكم مشترك هناك، بل استعمار بوجهين. رأى كيف تُنهب الموارد، وكيف تُفرض الضرائب على المزارعين، وتُسحق القرى باسم “النظام”.

زار ضريح المهدي في أم درمان. وقف أمامه صامتًا. شعر أنه يقف أمام رجل ربما لم يفهمه الغرب قط، رجلٌ أحياه الإيمان وأماته الطمع الإمبراطوري.

في سنواته الأخيرة، عاد إلى إنجلترا وكتب مذكراته:
“Fire and Sword in the Sudan”،
لكنه رفض حذف المقاطع التي تنتقد الاحتلال. فطُبع الكتاب على نطاق محدود، وأُهمل، لكنه ظل شاهدًا على تجربة رجل بدأ كجندي، وانتهى كإنسان يرى بعينين جديدتين.

في آخر خطاب ألقاه بنادٍ عسكري قال:

“كنا نظن أننا نحمل النور إلى شعبٍ في الظلام، لكننا فقط حجبنا عنهم شمسهم.”


النهاية.

 

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى